أخواتى الحبيبات
إنّ قمةَ إيمان المرء, وغايةَ ما يُطلب أن يصل إليه نحوَ خالقه ومولاه, أن يخشاه حقَّ خشيته, وأن يشعر بجلاله وعظمته؛ فإنّ هذا هو حقيقة الإيمان, وهو ثمرة الأعمال الصالحة التي شرعها الله تعالى لنا, ولهذا فقد عاتب الله تعالى بعض المسلمين على تأخر خشوع قلوبهم لذكره
فقال سبحانه:
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)
[الحديد: 16],
والمعنى:
أما حان وجاء الوقتُ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ؟!.
وقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربعُ سنين ".
فالمطلوب – أخواتى الحبيبات
- أن لا نكون كاليهود والنصارى الذين بدَّلوا كتاب الله واشتروا به ثمنًا قليلا, فأصبحت قلوبهم قاسيةً, لا تقبل موعظةً ولا ترِقُّ لها ولا تلين, فاستحقت اللعنةَ والطرد من رحمة الله, قال تعالى - واصفًا بني إسرائيل -: }
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74].
اذًاً فخشية الله تبارك وتعالى دليل لين القلب ورقته, كما أن انتفاء الخشية دليلُ قسوة القلب وغلظته, فما أعجبَ حالَ الإنسان حين يصل به الجمود إلى عدم التأثر بكتاب الله تعالى الكريم, وأن لا يشعر بعِظم خالقه المجيد, الذي تخاف منه الملائكة, وتتصدع من كلامه الجبال
(لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
[الحشر:21].
أيتها الأخوات الحبيبات
إن صفة المسلم الصادق, والمؤمن الحق, أنه يخشى ربه ومولاه, بل تجد أن هذا هو الغايةُ في إيمانه وتقواه, فلا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا وهو يراقب الله تعالى فيه, سواء أكان في عملٍ صغير أم كبير, في ليلٍ أو نهار, في سرٍّ أو علن, فالخشية وصفٌ لصيقٌ بالمؤمن لا ينفك عنه,
قال تعالى في وصف المتقين:
(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)
[الأنبياء: 49],
وقال سبحانه:
( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)
[المؤمنون: 1, 2],
والخشوع هو أثرٌ للخشية,
وقال تعالى عن آل زكريا - عليهم السلام -:
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)
[الأنبياء: 90].
أخواتى الحبيبات
وبسبب الخشية من الله تعالى كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرامُ يبكون, ويجتهدون في العبادة.
ثبت في مستدرك الحاكم وغيره, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: أنأبا بكر رضي الله عنه استسقى(أي طلب الشراب),
فقُدِّم له قدحٌ من عسلٍ مشوبٍ بالماء, فلما رفعه إلى فيه بكى حتى أبكى من حوله, فسكتوا وما سكت, ثم ازداد بكاؤه رضي الله عنه فبكى من حوله, فسكتوا بعد ذلك وسكت, فقالوا: يا أبا بكر, يا خليفة رسول الله:ما الذي أبكاك ؟
قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا أحد وهو يقول بيده: إليكِ عني إليكِ عني!
فقلت: يا رسول الله:
من تخاطب وليس هاهنا أحد ؟!
قال:هذه الدنيا تمثلت لي, فقلت لها: إليكِ عني إليكِ عني,
فقالت: إن نجوتَ مني فلن ينجو مني مَن بعدكَ.
[قال أبو بكرٍ لمن حوله]:
هذا الذي أبكاني.
وعن بلال بن الحارث المزَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يَظن أن تبلغ ما بلغت, يَكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يَظن أن تبلغ ما بلغت, يَكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه ".
فكان علقمة - راوي هذا الحديث عن بلال - يقول: كم من كلام قد منعَنِيهِ حديثُ بلاِل بن الحارث.
أخرجه أحمد وأهل السنن إلا أبا داود.
ورُوِي عن ميسرة بن أبي ميسرة أنه كان إذا أوى إلى فراشه يقول: يا ليتني لم تلدني أمي, فقالت له أمه حين سمعته: يا ميسرة: إن الله تعالى قد أحسن إليك؛ هداك للإسلام, قال: أجل, ولكن الله تعالى قد بيّن لنا أنا واردون على النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها
(أي ناجون منها).
وتأملوا هذا الأثر العظيمَ للفاروق المبشرِ بالجنة:
عمرَ بنِ الخطاب, رضي الله عنه وأرضاه,
فقد أخرج الإمام أبو داود في كتابه
" الزهد " - بإسناد حسن - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
" كان رأس عمرَ في حِجري -وذلك عند وفاته-, فقال: يا عبد الله : ضع رأسي بالأرض. قال: فجمَعتُ ردائي فوضعته تحت رأسه, فقال: ضع رأسي بالأرض لا أُمَّ لك. ثم قال [أي عمر]:
ويلُ عمرَ وويل أُمِّهِ إن لم يَغفر الله له ".
أيتها الحبيبات
إذا كان هذا هو حال خيار الناس في خشيتهم من الله تعالى والعملِ من أجل النجاة من يوم يشيب له الوِلدان,
فكيف المفترض أن يكون حال مَن بعدهم ممن هو لا يدانيهم ولا يقاربهم في المنزلة والفضل ؟!
أليس الأجدر بنا - معاشر المسلمين - أن نتأسف لحالنا, وأن نتندم على ما فات من أعمارنا, وأن نعقد العزم ونَجِدَّ الجِدّ للعمل لآخرتنا, وأن نخشى من الله تعالى حق الخشية حيث أمرنا سبحانه بذلك,
قال - عَز من قائل -:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)
[لقمان: 33]
وقال تعالى
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
[البقرة: 150].
أخواتى الحبيبات
مَن أراد أن يخشى الله تعالى حق الخشية,
فلْيسع لتحقيق بعض الأمور التي توصله إلى ذلك,
وأولها:
العلم بالله سبحانه وبعظيم خَلقه وصنعه, ؛ فإن الله تعالى قد بين لنا هذه الحقيقة العظيمة في كتابه الكريم بيانًا جليًّا, حيث نبّه سبحانه وتعالى على كمال قدرته في خلقه الثمارَ المختلفةَ المتنوعة في الألوان من الشيء الواحد الذي هو الماء, وكذلك في اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب,
قال تعالى :
( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور )
{ [فاطر/28] ,
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - :
"أي: إنما يخشاه حق خشيته: العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم - المعروفِ بصفاتِ الكمال, المنعوت بالأسماء الحسنى - كلما كانت المعرفة به أتمَّ والعلمُ به أكمل, كانت الخشيةُ له أعظمَ وأكثر.
ويفسر هذا المعنى ويوضحه قوله تعالى:
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)
[الزمر: 9].
ومن الأمور المحققة للخشية من الله تعالى:
أن يتفكر المسلم في الآخرة وما أعد فيها سبحانه لعباده الطائعين من النعيم المقيم, وما أعد لعباده الكافرين من العذاب المهين
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج/1, 2].
وقال تعالى عن الساعة:
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) [الشورى: 18].
ومنها:
القراءة في سِيَر الأسلاف والماضين, والاقتداء بهم في أعمالهم وحياتهم قدر المستطاع؛ فلقد حازوا في ذلك على القِدْحِ المعلّى, فكانوا خير أمة أخرجت للناس.
ومما يؤدي إلى الخشية ويقويها في النفوس:
الازدياد من الطاعات ؛ فإن الطاعة تدعو إلى أختها, كما أن المعصية تدعو إلى مثلها, والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, فبالطاعات والقُرُبات تَرِقُّ القلوب وتخشع, وباقتراف المعاصي والمنكرات تقسو القلوب وتضعف.
فلْنحافظ على الصلاوات, ولنُكثر من الصيام والصدقات, ولْيكن القرآنُ أنيسَ جلوسنا, وونيسَ حديثنا, ولنتحلَّ بمعالي الأخلاقِ وكريمها, ولنبتعد عن سيء الأخلاق وسِفْسافها, ولْنطهر قلوبنا, ولْنجعل الآخرة هي همَّنا ورجاءنا.
اللهم ارزقنا الخشية والإنابة إليك, وألهمنا الرشد والهداية في دينك, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, وأدخلنا برحمتك الجنة مع الأبرار, يا عزيز يا غفار.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته