رواية أبي الزبير عن جابر بالعنعنة

أبو الزبير عن جابر

أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي, مولى حكيم بن حزام, التابعي المعروف, الثقة المعدل. أكثر من الرواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, وروى عن غيره من الصحابة كعائشة وابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وغيرهم. وثقه ابن سعد وابن معين وابن المديني وغيرهم, وتركه شعبة بما لا يوجب القدح والرد, واختلف في روايته عن جابر خاصة فيما عنعنه عنه, فقبله بعض أهل العلم, ورده آخرون, إلا ما كان من رواية الليث بن سعد عنه, وذلك بحجة تهمته بالتدليس. وهو ما حدا ببعض أهل الحديث أن يرد مروياته عنه أو بعضها, كما فعل الشيخ الألباني في مواضع من كتبه.
وأنا هنا أبين الحق في رواية أبي الزبير عن جابر بالعنعنة من خلال أنموذجين من صحيح مسلم, مكتفيا بهما عما بعدهما. مبينا حجة من ضعف ومستمسكه, معرجا ببيان الحق الذي ظهر لي, والله أعلم.
النموذج الأول:
قال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال: قال رسول الله r "لا تذبحوا إلا مسنة, إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن"([1]).
وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني أولاً في مشكاة المصابيح([2]) والسلسلة الضعيفة([3]), ثم تنبه لضعفه في ضعيف أبي داود والإرواء كما سيأتي, وذلك لتفرد أبي الزبير به, وقد عنعنه عن جابر, ولم يصرح بالسماع فيه.
قال في ضعيف أبي داود بعدما ساقه بمثل إسناد مسلم: [وهذا إسناد ضعيف وإن كان على شرط مسلم؛ فإن أبا الزبير مدلس، وقد أورده الحافظ في المرتبة الثالثة من رسالته "طبقات المدلسين", وهي طبقةُ مَن أكثر من التدليس؛ فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ ولذلك قال الذهبي: وفي صحيح مسلم عدة أحاديث لم يُوضِّحْ فيها أبو الزبير السماع من جابر، ولا هي من طريق الليث عنه؛ ففي القلب منها شيء". قلت: وهذا منها، فقد أخرجه مسلم وأبو عوانة وغيرهما- في نحو عشرة من الأئمة المخرجين- من طرق عن زهير عن أبي الزبير... به معنعناً. ليس في شيء منها تصريح أبي الزبير بالتحديث لتزول شبهة التدليس. وقد فصلْتُ القول في هذه الشبهة في "الأحاديث الضعيفة" تحت الحديث/65/.
ثم خرجت الحديث عن الأئمة المشار إليهم في "الإرواء"؛ فتصحيح الحديث والحالة هذه؛ كما فعل الحافظ في "الفتح" ينافي القواعد العلمية، ولا سيما وهو مخالف لبعض الأحاديث الصحيحة؛ كما بينته في المصدرين المذكورين آنفاً، وتأويله بحمله على الأفضلية ينافيه قوله فيه: "إلا أن يعْسُر عليكم". ولذلك بوّب له أبو عوانة بـــ "باب وجوب الأضحية بالمُسِنة"! على أن التأويل فرع التصحيح، وهذا منفي! واللّه أعلم. فلعل في هذا تذكيراً لبعض الطلبة الذين انتقدوا تضعيفي للحديث في "السلسلة". والله ولي التوفيق] اهـ([4]).
وقال في الإرواء: [ومدار الطريقين على أبي الزبير, وهو مدلس معروف بذلك, خاصة عن جابر, فيتقى حديثه عنه ما لم يصرح بالتحديث وكان معنعناً, كما فعل في هذا الحديث في جميع المصادر المخرجة له, وقد كنت اغتررت برهة من الزمن بهذا الحديث, متوهماً صحته, لإخراج مسلم إياه في صحيحه, ثم تنبهت لعلته هذه, فنبهت عليها في السلسلة الضعيفة] اهـ([5]).
وقال في السلسلة الضعيفة: [ويؤيده حديث أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن", أخرجه مسلم وأبو داود, وقال الحافظ في الفتح: إنه حديث صحيح. استدراك: ذلك ما كنت كتبته سابقا منذ نحو خمس سنوات، وكان محور اعتمادي في ذلك على حديث جابر المذكور من رواية مسلم عن أبي الزبير عنه مرفوعا: "لا تذبحوا إلا مسنة ..."، وتصحيح الحافظ ابن حجر إياه، ثم بدا لي أني كنت واهما في ذلك، تبعا للحافظ، وأن هذا الحديث الذي صححه هو, وأخرجه مسلم كان الأحرى به أن يحشر في زمرة الأحاديث الضعيفة، لا أن تُتَأول به الأحاديث الصحيحة, ذلك لأن أبا الزبير هذا مدلس، وقد عنعنه، ومن المقرر في علم المصطلح: أن المدلس لا يحتج بحديثه إذا لم يصرح بالتحديث، وهذا هو الذي صنعه أبو الزبير هنا، فعنعن ولم يصرح، ولذلك انتقد المحققون من أهل العلم أحاديث يرويها أبو الزبير بهذا الإسناد أخرجها مسلم، اللهم إلا ما كان من رواية الليث بن سعد عنه، فإنه لم يرو عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، فقال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي الزبير - واسمه محمد بن مسلم بن تدرس- بعد أن ذكر فيه طعن بعض الأئمة بما لا يقدح في عدالته: وأما أبو محمد بن حزم، فإنه يرد من حديثه ما يقول فيه عن جابر ونحوه, لأنه عندهم ممن يدلس، فإذا قال: سمعت وأخبرنا؛ احتج به، ويحتج به ابن حزم إذا قال: "عن" مما رواه عنه الليث بن سعد خاصة، وذلك لأن سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا الليث قال: جئت أبا الزبير، فدفع إلى كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو أنني عاودته فسألته أسمع هذا من جابر؟ فسألته، فقال: منه ما سمعت، ومنه ما حُدثت به، فقلت: أعلم لي على ما سمعت منه، فأعلم لي على هذا الذي عندي، ثم قال الذهبي: وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع من جابر، ولا هي من طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء. وقال الحافظ في ترجمته من التقريب: صدوق إلا أنه يدلس] اهـ([6]).
النموذج الثاني:
قال مسلم في صحيحه: حدثنا هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي قالا حدثنا ابن وهب أخبرني عياض بن عبدالله عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله عن أم كلثوم([7]) عن عائشة زوج النبي r قالت: إن رجلا سأل رسول الله r عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة, فقال رسول الله r: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل"([8]).
قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: ["إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل، يعني الجماع بدون إنزال". ضعيف مرفوعاً. أخرجه مسلم والبيهقي من طريق ابن وهب: أخبرني عياض بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن أم كلثوم عن عائشة زوج النبي r قالت: "إن رجلا سأل رسول الله r عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله r. فذكره. قلت: وهذا إسناد ضعيف, وله علتان:
الأولى: عنعنة أبي الزبير, فقد كان مدلساً، قال الحافظ في التقريب: "صدوق، إلا أنه يدلس". وقال الذهبي في الميزان: "وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، ولا هي من طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء". قلت: ثم ذكر لذلك بعض الأمثلة، وهذا منها عندي.
الثانية: ضعف عياض بن عبد الله وهو ابن عبد الرحمن الفهري المدني، وقد اختلفوا فيه, فقال البخاري: "منكر الحديث". وهذا منه إشارة إلى أنه شديد الضعف كما هو معروف عنه، وقال أبو حاتم: "ليس بالقوي, وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: "روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر". قلت: وهذا من روايته عنه كما ترى. وقال ابن معين: "ضعيف الحديث"، وقال ابن شاهين في الثقات: "وقال أبو صالح: ثبت، له بالمدينة شأن كبير, في حديثه شيء". قلت: ولخص هذه النقول الحافظ في التقريب بقوله: "فيه لين". وأشار الذهبي في الميزان إلى تضعيف قول من وثقه بقوله في ترجمته: "وثق! وقال أبو حاتم: ليس بالقوي". ولذلك أورده في كتاب الضعفاء وحكى فيه قول أبي حاتم المذكور. وبالجملة؛ فالرجل ضعيف لا يحتج به إذا انفرد, ولو لم يخالف، فكيف وقد خالفه مَن مثلُه في الضعف فرواه موقوفاً على عائشة، ألا وهو أشعث بن سوار فقال: عن أبي الزبير به عن عائشة قالت: "فعلناه مرة فاغتسلنا، يعني الذي يجامع ولا ينزل". أخرجه أحمد, وأبو يعلى, وأشعث هذا ضعيف كما في التقريب. وأخرج له مسلم متابعة، فروايته أرجح عندي من رواية عياض، لأن لها شاهداً من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الرجل يجامع ولا ينزل؟ فقالت: "فعلت أنا ورسول الله r فاغتسلنا منه جميعا". أخرجه أبو يعلى في مسنده, وابن الجارود في المنتقى, وغيره بسند صحيح, كما بينته في زوائده على الصحيحين. قلت: فهذا هو اللائق بهذا الحديث أن يكون موقوفاً، وأما رفعه فلا يصح، والله أعلم.
ثم رأيت الحديث في "المدونة" هكذا: ابن وهب عن عياض بن عبد الله القرشي وابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر. فزال بذلك تفرد عياض به، وانحصرت العلة في عنعنة أبي الزبير مع المخالفة] اهـ([9]).
قال محمود خياط: إذا كان الألباني مصراً على تضعيف عياض هنا – ولو لم يجعله علة الحديث لأنه توبع – فقد سكت عن ضعفه في تعليقه على كتاب السنة لابن أبي عاصم, وضعّف الحديث برجل آخر في الإسناد إشعاراً منه بثقة عياض, فقال في تخريج حديث: [حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ صَدَقَةَ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلا أُخْبِرُكَ قُلْتُ بَلَى فَقَالَ إِنَّ أَبَاكَ عُرِضَ عَلَى رَبِّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سِتْرٌ فَقَالَ سَلْ تُعْطَهْ]([10]). قال الألباني: (حديث صحيح, وإسناده ضعيف، رجاله ثقات غير صدقة، وهو ابن عبد الله السمين أبو معاوية، وهو ضعيف كما في التقريب، لكن الحديث صحيح يشهد له ما قبله). فإما أن يكون المنهج واحداً في توثيق الرجل أو تضعيفه, وإما أن يكون بقرائن معقولة غير ما ذكره الشيخ وعول عليه.
قال محمود: وعودة إلى حديث أبي الزبير الذي نحن بصدده أقول: قد أخرجه زيادة عمن ذكرهم الشيخ:
1- النسائي في السنن الكبرى([11]) قال: أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال أنا بن وهب قال أخبرني عياض بن عبد الله القرشي وذكر آخر عن أبي الزبير عن جابر أخبرتني أم كلثوم عن عائشة به. فذكره مرفوعاً.
2- البيهقي في السنن الكبرى([12]): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو زكريا بن أبي إسحاق، وأبو بكر بن الحسن القاضي، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنا ابن وهب، قال: وحدثنا بحر بن نصر، قال: قرئ على ابن وهب: أخبرك عياض بن عبد الله القرشي، وغيره، عن أبي الزبير المكي... به فذكره مرفوعاً.
3- أبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم([13]). وأبو عوانة في مسنده([14]). من طريق ابن وهب به مثل إسناد مسلم.
4- الدارقطني في سننه([15]), والطحاوي في شرح معاني الآثار([16]). من طريق ابن وهب قال: أخبرني عياض بن عبد الله القرشي وابن لهيعة عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله قال أخبرتني أم كلثوم عن عائشة رضي الله عنها به مرفوعاً.
فهؤلاء ستة من كبار أئمة هذا الشأن رووا الحديث, ولم يعترض واحد منهم عليه, ولم يعللوه بعياض ولا بأبي الزبير, حتى الذين لم يقرنوا مع عياض ابن لهيعة.
وأقول أيضاً: لقد وقع الشيخ رحمه الله في تقصير عجيب في تخريج هذا الحديث, فبعد أن علله بعياض؛ وجعله العلة الكبرى للحديث؛؛ وقف عليه في المدونة, مقروناً معه ابن لهيعة, فأين هو من رواية الدارقطني والبيهقي التي قَرنت ابن لهيعة مع عياض, ولا يخفى أن العزو إليها أوجب من العزو للمدونة.
قال مغلطاي: (وليس لقائل أن يقول: هو من رواية أبي الزبير عن جابر من غير تصريح بالسماع، ولا هو من رواية الليث عنه، وذلك مشعر بالانقطاع، وإن كان عند مسلم فإنه ينفع في المناظرة لا في النظر؛ لأنه وقع لنا طريق يصرح فيها بالسماع ذكرها الحافظ أبو بكر الخطيب فيما رويناه عنه في كتاب رواية الصحابة عن التابعين من حديث الإمام أحمد بن حنبل، ثنا موسى بن داود ثنا عبد الله عن أبي الزبير أخبرني جابر به في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيّب أن أبا موسى سأل أمنا عائشة فقال: " الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ فقالت: إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل". فقال أبو موسى: لا أسأل عن هذا أحدا بعدك)([17]).
وأخيراً: وبعد أن انحصرت علة الحديث بأبي الزبير فقد تبين ما في هذا التعليل من مآخذ, سيأتي الحديث عنها في التعليق على شأن أبي الزبير وحاله.
قال محمود خياط: ومع كل ما أطال به الشيخ في رد هذين الحديثين, وتعليله بعنعنة أبي الزبير فيهما فإن النفس لا تطمئن إلى تضعيفه, وذلك لأسباب:
1- أن رواية أبي الزبير عن جابر بالعنعنة في صحيح مسلم بلغت أكثر من /133/ رواية, وفيها ما لم يصرح فيه أبو الزبير بالسماع عند غير مسلم, وعليه فإن هذا يستدعي تضعيف جميع أحاديثه عند مسلم, وهذا مما لم يسبَق إليه الشيخ رحمه الله, فإنهم بينوا أن عنعنة المدلس في الصحيحين محمولة على القبول, وذلك أن صاحب الصحيح علم صحة الرواية المعنعنة ولم يرد التطويل بالتدليل على صحتها, فاكتفى بمجرد علمه بها, واحتج بها.
2- أن المحدثين الذين جاؤوا بعد مسلم قد رووا حديث المسنة بهذا الإسناد وصححوه, منهم البيهقي في معرفة السنن, حيث قال: وفي الحديث الثابت عن أبي الزبير, عن جابر قال: قال رسول الله r: "لا تذبحوا إلا مسنة, إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". أخبرناه علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن شاذان، حدثنا موسى بن داود، حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، فذكره. رواه مسلم في الصحيح عن أحمد بن يونس عن زهير([18]).
3- أن أبا الزبير تابعي, وقد ذكر أهل العلم أن تدليس التابعين ليس كتدليس غيرهم, وأنهم كانوا لا يدلسون عن متهم ولا مجروح.
قال ابن القيم: [وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس؛ فليس معروفاً بالتدليس عن المتهمين والضعفاء, بل تدليسه من جنس تدليس السلف, لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح, وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين] اهـ([19]).
وقال أيضا: [فإن أبا الزبير غيرُ مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يُخشى مِن تدليسه، فإذا قال: سمعتُ، أو: حدثني، زال محذورُ التدليس، وزالت العلةُ المتوهَّمة، وأكثرُ أهلِ الحديث يحتجُّون به إذا قال: "عن" ولم يُصِّرحْ بالسماع، ومسلم يُصحِّح ذلك من حديثه] اهـ([20]).
4- أن الذي يُخشى من حديث المدلس هو الواسطة الساقطة بينه وبين من دلس عنه, فإذا عرفت الواسطة وكان ثقة؛ لم يكن لهذا التدليس كبير خطر, واحتُج به. وتدليس أبي الزبير عن جابر من هذا النوع, فإن الواسطة بينهما قد عُرفت, وهو سليمان بن قيس اليشكري, وهو ثقة معروف. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: جالس سليمان اليشكري جابرا فسمع منه, وكتب عنه صحيفة, فتوفي وبقيت الصحيفة عند امرأته, فروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر, وهم قد سمعوا من جابر, وأكثره من الصحيفة([21]).
5- أن الصحيحين قد تعرضا للنقد من قبل كبار المحدثين, أمثال الدارقطني وابن عمار والجياني وغيرهم, ولم يعلل واحد منهم أحاديث أبي الزبير عن جابر في صحيح مسلم, وهي التي لم يصرح فيها بالسماع, فلو كانت ضعيفة عندهم أو معلولة لما سكتوا عنها وهي بهذه الكثرة.
6- أن مسلماً أخبر أنه عرض كتابه الصحيح على أبي زرعة الرازي, فأقره عليه, إلا أشياء انتقدها فتركها مسلم, وهذه مشاركة من هذا الإمام الجبل لمسلم في انتقاء أحاديث صحيحه, فلو كانت عنعنة أبي الزبير عن جابر في الأحاديث التي احتج بها مسلم ضعيفة لما سكت عنها أبو زرعة.
7- أن أبا الزبير لم يوصف بالتدليس عند المتقدمين, فلم يذكره أحد ممن جرحه بهذا الوصف, ومعروف عن شعبة تشدده في أمر التدليس وبعده عن كل مدلس إلا أنه في نقده لأبي الزبير لم يصفه بالتدليس وإنما ترك الرواية عنه لأمر رآه فيه مما لا يوجب القدح عند غير شعبة. وأول من وصف أبا الزبير به هو النسائي.
وتمسك به بعده ابن حزم في أمر أبي الزبير خاصة, مع أنه خالف عندما تكلم عن حكم الأخذ برواية المدلس فقال: [وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خطأ وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان] اهـ([22]).
وقال في موضع آخر: [وأما المدلس فينقسم إلى قسمين أحدهما حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما أسنده وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سندا وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئا لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا من ذلك وسواء قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه إيرادا غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته] اهـ([23]).
8- أن أبا الزبير حجازي مكي, ومعلوم أن التدليس في أهل الحجاز نادر قليل, وإذا وجد فيهم من عرف منه التدليس فإن التابعين منهم كانوا أبعد الناس عنه.
فقد نقل الزركشي عن ابن السمعاني في القواطع أنه قال: [اعلم أن عامة المحدثين من أهل الحجاز قد صانوا أنفسهم عن التدليس إلا ما ذكرناه عن ابن عيينة وهو كوفي وقد سكن مكة, وصار إمام الدنيا في الحديث, وإنما كثر التدليس من أهل الكوفة وجماعة من أهل البصرة والشام, وقد كان هشيم بن بشير كثير التدليس وهو من أهل واسط, وأما أهل بغداد والجبال وأهل خراسان وما وراء النهر فلا يذكر عن أحد منهم التدليس إلا الشيء اليسير]([24]).
وقد ترجم النووي لأبي الزبير في التهذيب له, فلم يتعرض لمسألة تدليسه ولا تضعيفه, وليس ذلك منه تقصيرا في النصح للأمة, ولكنه يرى أن ما رواه مسلم عنه في صحيحه لا يخرج عن حد الاحتجاج, فقال: [أبو الزبير التابعي: صاحب جابر بن عبد الله، هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدريس، بتاء مثناة فوق، ثم دال مهملة ساكنة، ثم راء مضمومة، ثم سين مهملة، الأسدي المكي، مولى حكيم بن حزام. وهو تابعي، سمع جابرًا وأكثر الرواية عنه، وابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص، وابن الزبير، وأبا الطفيل، رضى الله عنهم. روى عنه هشام بن عروة، والزهرى، وسلمة بن كهيل، وأيوب، وعبد الله بن عون، ويحيى الأنصارى، وموسى بن عقبة، وداود بن أبى هند، وعمرو بن الحارث، وابن جريج، وسفيان الثورى، ومالك، وابن عيينة، وابن لهيعة. واتفقوا على توثيقه.
قال يعلى بن عطاء: حدثنى أبو الزبير، وكان من أكمل الناس عقلاً وأحفظهم، قال أبو الزبير: كان عطاء قدمنى إلى جابر أحفظ لهم الحديث. وقال يحيى بن معين: أبو الزبير ثقة، وهو أثبت من أبى سفيان. وقال أحمد بن حنبل: أبو الزبير أحبُّ إلىَّ من أبى سفيان؛ لأن أبا الزبير أعلم بالحديث منه. وقال ابن عدى: روى مالك، عن أبى الزبير أحاديث، وكفى به صدقًا أن يُحدِّث عنه مالك، فإن مالكًا لا يُحَدِّث إلا عن ثقة. قال: ولا أعلم أحدًا من الثقات امتنع عن أبى الزبير، بل كتبوا عنه.
روى له مسلم فى صحيحه محتجًا به، وروى له البخارى مقرونًا به غير محتج به على انفراده، ولا يقدح ذلك فى أبي الزبير، فقد اتفقوا على توثيقه والاحتجاج به. توفي سنة ثمان وعشرين ومائة] اهـ([25]).
كتبه: د. محمود خياط



[1] - صحيح مسلم, كتاب الأضاحي, باب سِن الأضحية, (3/1555/رقم/1963).

[2] - مشكاة المصابيح (1/326/رقم/1455).

[3] - سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/160).

[4] - ضعيف أبي داود (2/374/رقم/485).

[5] - إرواء الغليل (4/358/رقم/1145).

[6] - سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/160).

[7] - أم كلثوم هي بنت أبي بكر الصديق القرشية التيمية، وأمها حبيبة بنت خارجة, التى مات أبو بكر الصديق وهي حامل بها، تابعية ثقة, لا تعرف لها رواية عن غير عائشة. روى لها البخارى في الأدب، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه.

[8] - صحيح مسلم, كتاب الحيض, باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين, (1/272/رقم/350).

[9] - سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/406- 407/رقم/976).

[10] - السنة لابن أبي عاصم (1/ 268/ رقم/603).

[11] - السنن الكبرى للنسائي, كتاب عشرة النساء, باب الرخصة في أن يحدث الرجل بما يكون بينه وبين زوجته (8/237/رقم/9077).

[12] - السنن الكبرى للبيهقي (1/254/رقم/768).

[13] - المستخرج على صحيح مسلم (1/392/رقم/782).

[14] - مسند أبي عوانة (1/243/رقم/828).

[15] - سنن الدارقطني (1/112/رقم/3).

[16] - شرح معاني الآثار الطحاوي (1/55/رقم/308).

[17] - شرح ابن ماجه لمغلطاي (ص/806).

[18] - معرفة السنن والآثار للبيهقي (14/29/رقم/5850).

[19] - زاد المعاد (5/406).

[20] - زاد المعاد (5/226).

[21] - الجرح والتعديل (4/ 136)

[22] - الإحكام لابن حزم (8/ 544).

[23] - الإحكام لابن حزم (1/ 132).

[24] - النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (2/ 85).

[25] - تهذيب الأسماء واللغات (2/232).

المصدر...