وهنا سؤال عظيم من أهم ما يكون :
قال السعدي – رحمه الله - : " سؤال مهم :إذا كانت حقيقة العبادة ولبها مبنية على غاية الحب مع غاية الذل، وقد يوجد من المخلوق للمخلوق حب وذل ، أو يوجد أحدهما .
فما الفرق بين ما يتعلق بالمخلوق ولم يبلغ رتبة العبادة وبين حقيقة العبادة المبنية على الأصلين المذكورين ؟
الجواب :
- وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب - : اعلم أن هذا سؤال عظيم ، له شأن عظيم ، ولا يُعرف سر العبودية وحقيقتها ، بل لا يُعرف التوحيد كله إلا بمعرفة الفرق بين الحب والذل الذي هو عبادة ، وبين الحب والذل الذي ليس بعبادة، ومعرفة الفرق بين الأمرين : هو أعظم فرقان يفرق به بين الأمور المتباينة والألفاظ المتشابهة والمعاني التي بينها من الفرق أعظم مما بين السماء والأرض .
وبيان ذلك أن الحب والذل لله – تعالى – هو عبادته وكل قول وفعل واعتقاد اشتمل عليه الدين ، فالتعبد به لله – تعالى – مقرون بحب الله – تعالى – والذل له ، الذي حقيقته : الانقياد لشرع الله ، تصديقاً لأخباره ، وتقرباً إلى الله بذلك التصديق المشتمل على العلم والمعرفة ، النافع للقلوب الموصل لها إلى أجل غاية ، وأعظم مطلوب، وامتثالاً لأمره ، واجتناباً لنهيه ، تقرباً إلى الله وطلباً لمرضاته ونيل ثوابه العاجل والآجل بفعل المأمور ، واجتناب المحظور .
فطلب التقرب إلى الله في ذلك هو حقيقة الحب ، بل هو ثمرة الحب؛ لأن العابد لله لما أحب ربه طلب السعي بكل ما يقربه إليه ، ويدنيه منه . وذلك السعي والعمل هو الانقياد الذي هو ثمرة الذل والتعظيم للرب ، بل هو القوة المعنوية التي عزم عليها المؤمن ، وهي التزامه العام لطاعة الله ورسوله ، بتصديق الخبر .
وطاعة الأمر ، هي : حقيقة الحب والذل ، حيث قال المؤمنون : {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} .
فكل ما قاموا به من الدين وما عزموا عليه والتزموه منه فإنه من آثار الحب والذل ، فهذه آثار العبودية .
وثمرتها : القيام بالدين كله ، علماً وعزماً وعملاً ونيةً .
ولا بد أن يكون هذا الحب والذل ناشئين عن معرفة بأسماء الله وصفاته ، وأن له كمال الأسماء ، وعظيم الصفات التي هي جميع صفات الكمال ، ونهاية الجلال والجمال ، وهي صفات الإلهية ونعوتها .
فالله هو المألوه ذلاً وحباً ، وتوابع ذلك لما له من هذا الكمال الذي يختص به ، فلا يشاركه في ذلك مشارك .
فجميع محامده التي ذكرها في كتبه ، ونطقت بها رسله هي صفات ألوهيته ، التي ألهه المحبون المتذللون لأجلها ، وعبدوه بسببها . فعرفوا ما له من العظمة والكبرياء ، والمجد والجلال ، فخضعوا وذلوا . وما له من الجمال والكرم والرحمة والجود والإحسان ؛ فامتلأت قلوبهم من محبته ، وفاضت ألسنتهم بالثناء عليه ، وانقادت جوارحهم طلباً لقربه ورضاه وثوابه .
وعرفوا ما له من العدل والحكم ، ووضع الأشياء في مواضعها وإيقاع العقوبات المتنوعة بأنواع المخالفين ؛ فخافوا ورهبوا وحذروا من معاصيه . وحيث وقعت منهم على وجه الغلبة ، بادروا بالتوبة ، والخروج من تبعتها .
وعرفوا ما له من الفضل العظيم والرحمة السابغة ، وأنواع الألطاف . فاشتاقوا إلى كرمه ، وسعوا لتحصيل ثوابه وجوده ، وهانت عليهم المشقات ، لما عرفوا أنها تفضي بهم إلى أجل الكرامات ، وأفضل الثواب .
وعرفوا – مع ذلك – أنه لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يدفع السيئات إلا هو ، وأن جميع النعم الظاهرة والباطنة كلها منه ، وأن كل شر وعقوبة اندفعت عنهم فبدفعه وحفظه وأنه الرب على الحقيقة ، كما أنهم هم العبيد المماليك على الحقيقة ، ليس لهم من أنفسهم إيجاد ، ولا إمداد ، ولا إعداد .
فهم الفقراء إليه في جميع أمورهم في خلقهم وخلق جوارحهم الظاهرة والباطنة ، وفي رزقهم وتدبيرهم ، وأنهم مماليك محض ، وليس لهم شيء ، ولا منهم شيء ، بل كل ما حصل لهم من منافع أو دفع مضار ، فمن الله .
فلما عرفوا ربهم وعرفوا أنفسهم ذلوا وخضعوا لله واشتاقوا إلى كل ما يقربهم منه ، وما يسترحمون به إلههم ومعبودهم في حوائجهم المضطرين إليها في جميع اللحظات .
فتبين وظهر أن الحب والذل الذي هو عبودية لله ، وتأليه له ، لا يشابهه غيره ، ولا يلتبس بسواه ، في أسبابه وموجباته . فإنه حب وذل ، اقترن بالقيام بالدين ، وبحسب حال صاحبه ، واقترن بمعرفة الله وما له من النعوت العظيمة ، التي اختص بها ، وتوحد بها ، واقترن بمعرفة العبد بنفسه ، وأنه عبد مملوك مضطر غاية الاضطرار إلى عبودية ربه ، وإلى تأليهه لشدة ضرورته ، وتوقف سعادته على ذلك ، ولكونه مستحقاً عليه لازماً له ، من حيث إنه عبد مملوك ، مأمور منهي .
فكما أن المعبود المألوه ، ليس كمثله شيء في جميع أوصافه ، وكماله ، فالعبادة المتعلقة به لا يشبهها شيء .
ولهذا كلما قويت هذه الأمرو في العبد ، وكان أكمل لتوحيده ، وأبلغ في عبوديته لله .
فتمام التوحيد بتمام الإخلاص لله في الاعتقاد والقول والعمل ، وبتمام معرفته لله – تعالى – إجمالاً وتفصيلاً ، وتأصيلاً وتفريعاً . وكلما ضعفت منه هذه الأمور ، ضعف توحيده .
ولهذا كان الشرك في الربوبية ، والشرك في الإلهية ، والشرك في العبودية ، والشرك في أسماء الله وصفاته وأفعاله ، منافياً كل المنافاة للعبودية التي هي غاية الحب ، مع غاية الذل ؛ لأن من زعم أن لله شريكاً في ربوبيته وتدبيره ، أو أنه له سمي أو مثيل في صفات كماله ، فقد أشرك بربوبية الله ، وساوى غير الله بالله ، بل ساوى المخلوق بالخالق ، والمُعَبَّد المدبَّر ، بالرب المدبر . ونفى خصائص ألوهية الله – تعالى – التي حقيقتها تفرده بجميع الكمال .
ومن أشرك في عبوديته وإخلاصه ، بأن صرف نوعاً من عبوديته لغير الله – تعالى - ، فقد نقص توحيده ، وأفسد دينه الذي هو الإخلاص المحض {ألا لله الدين الخالص} [الزمر:3] .
فأي حب وأي ذل يشتبه بهذا أو يقاربه ، إلا حب وذل هو عبودية لغير الله ، وشرك به ؟
وهي المحبة الشركية الصادرة من المشركين التي مضمونها تسوية آلهتهم برب العالمين ، في الذل والتعظيم والحب .
ولهذا يقولون في وسط جهنم ، معترفين بشركهم ، نادمين أشد الندم ، شاهدين بغاية ضلالهم : {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:97-98] .
ومع أن هذا شرك في توحيدهم ، فإنهم لا يساوون المؤمنين في حبهم وتعظيمهم ؛ قال الله – تعالى - : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }[البقرة: 165] .
فظهر ببيان حقيقة العبودية الفرق العظيم بين حب العبادة وتعظيمها ، وبين الحب الطبيعي وتوابعه .
والحب الطبيعي تابع لبعض مراد النفس والشهوات المتباينة التي تبقى ببقاء ذلك المراد ، وتزول بزواله .
وأما الذل الطبيعي فهو ناشئ عن خوف من عقوبة مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة . وقد يجتمع الأمران في تعلقهما بالمخلوق ، فيحب غيره ويعظمه ويذل له لما يرى له عليه من حق أبوة أو إحسان أو نحوهما .
وذلك الحب والذل تابع لذلك الحق الذي فعلهما لأجله ، مع علمه أن المعظم المحبوب له مخلوق مثله ، ناقص مثله ، فقير مثله في جميع أحواله ، وأنه لا يملك له نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً .
وأما حبه لأولياء الله وأصفيائه ، فهو حب تابع لحبه لله ، لأنه لما رأى محبة محبوبه لهم ، لما قاموا به من مراضيه – أحبهم لله ، ولهذا تقوى هذه المحبة بسبب قوة العبودية والتوحيد .
فنسألك – اللهم – حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يبلغنا إلى حبك ، ونعوذ بوجهك الكريم أن نشرك مخلوقاً في الحب معك ، وأن نساويه فيك في شيء من الأمور التي اختصصت بها ، وانفردت باستحقاقها .
ونسألك – اللهم – أن تجعل جميع ما أحببناه من قوة وصحة وعافية وأهل ومال وولد وأصحاب وغيرهم معيناً لنا على محابك ومقويا لنا على طاعتك وأن ترزقنا من الإخلاص الكامل ما يأتي على ذلك أجمع بأن تجعل نياتنا وسعينا في عباداتنا وعاداتنا طريقاً لنا إلى الوصول إليك وأن تعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنك جواد كريم "
(الفتاوى السعدية : 22-29) .
نفعنا الله وإياكم
حفظكم الله ورعاكم